ومن يتابع عن بعد تصريحات بعض الدول العربية والغربية، التي تحذر مواطنيها من السفر إلى لبنان، أو تطلب من مواطنيها مغادرة لبنان، يظن أن الحرب قائمة اليوم وليس غداً. لكن هذه التحذيرات لم تردع اللبنانيين، الذين يحملون جنسيات أخرى، وهم كثر، من التوجه إلى وطنهم كما اعتادوا أن يفعلوا مع بداية كل صيف. ورغم إصرار بعض هؤلاء اللبنانيين على تحدي الصعوبات التي قد يواجهونها أثناء تواجدهم على الأراضي اللبنانية، إلا أن الكثير منهم فضل الانتظار وعدم المخاطرة، نظراً للأخبار التي يسمعونها كل يوم، سواء عبر وسائل الإعلام التقليدية أو قراءتها عبرها. وسائل التواصل الاجتماعي، والأصداء التي تتلقاها نتيجة الشائعات التي تطلقها جهات معروفة، متخصصة في اللعب على الحالات النفسية، خاصة وأنها تعلم أن الأخبار تصل إلى الخارج بشكل مبالغ فيه، حتى أن ردود أفعال البعض مبالغ فيها إلى حد ما.
بالتواصل مع أغلبية الذين «خاطروا» بالتوجه إلى لبنان واستخفوا بهذه التحذيرات، يتبين من انطباعاتهم العفوية أن «كل شيء على ما يرام»، وأن الناس الذين لا يعيشون في المناطق المستهدفة من قبل إسرائيل «لا يكترثون»؛ فهم يذهبون إلى المسابح والشواطئ للحصول على سمرة صيفية؛ ويسهرون حتى وقت متأخر ويملؤون المطاعم والمقاهي والنوادي والملاهي الليلية «الممتلئة». ويعود الجميع إلى بيوتهم في وقت متأخر من الليل، غير مبالين بكل هذه المعلومات. وعند سؤالهم عن القصف اليومي على الجنوب، تأتي إجابتهم من مكان غير متوقع: «من أخرج الحمار إلى المدينة فلينزل»، أي أن حزب الله الذي قرر فتح الجبهة الجنوبية من دون استشارة أي من شركائه في الوطن، يجب أن يتحمل مسؤولية ما فعله، وهم يعتقدون أن دعم غزة له جوانب عديدة غير الدعم العسكري. وهذا ليس ما يراه آخرون ينتمون إلى بيئة “الثنائي الشيعي”، الذين يقولون إن الخسائر البشرية والمادية التي لحقت بالعدو هي أكبر بكثير من الخسائر اللبنانية، وأنه لولا عمليات “المقاومة الإسلامية” التي تنطلق من الجنوب، والتي تلحق بالعدو أشد الخسائر، لما أتى هذا العدد من المسؤولين والمبعوثين الدوليين إلى بيروت للبحث في كيفية تهدئة الوضع المتفجر بين إسرائيل و”حزب الله” بهدف ضمان عودة سريعة للمستوطنين إلى مستوطناتهم الشمالية.
وبرأيهم فإن ربط الجبهة الجنوبية بجبهة غزة حقق هدفه، والدليل أن رد حزب الله سواء على المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين أو على غيره من المبعوثين الدوليين هو أن عمليات “المقاومة الإسلامية” لن تتوقف حتى تتوقف الحرب على غزة، وهذا ما يجري العمل عليه حالياً للوصول إلى تسوية شاملة تضمن حقوق الفلسطينيين في دولة مستقلة كاملة المواصفات.
من جهة أخرى، فإن ما شهدته الساحة السياسية الداخلية خلال هذا الأسبوع من رفع سقف الخطاب السياسي على خلفية العظة التي تناول فيها البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الوضع الراهن في الجنوب، كاد يدخل البلاد في مناكفات سياسية ليست في وقتها ولا في ظروفها، خاصة وأن ما يعانيه أبناء الجنوب من قصف وهدم لمنازلهم وحرق لمزروعاتهم، إضافة إلى معاناة كل اللبنانيين من وضع اقتصادي خانق وقمعي، لا يعطي لأي حزب أو مسؤول طائفي الحق في توزيع شهادات الوطنية والانتماء الوطني والمزايدة على العداء لإسرائيل باعتبارها العدو الوحيد للبنان وكل اللبنانيين على حد سواء.
وتأتي هذه المبالغة والهرج السياسي في وقت لا تزال فيه الجمهورية بلا رئيس يدير لعبة التوازنات الداخلية بعقلانية، ويساهم مع مسؤولين آخرين في إعادة الحياة لمؤسسات الدولة الشرعية، وحقن جرعة من السلطة. الأمل والثقة في وطن يكاد أن يصبح أوطاناً، وبالتالي يفقد هويته، وهو ما أبدى وزير خارجية الفاتيكان، الكاردينال بيترو بارولين، خوفه عليها.